تاريخ غنيّ بالمأكولات على مدى سبعة آلاف سنة

يمنحنا تطوّر الطعام في مصر لمحة رائعة عن تاريخ البلاد خلال السبعة آلاف سنة الماضية

The Food of the Ancient Egyptians (2020)راوي - دورية التراث المصري

مأكولات المصريين القدامى

كان المصريون القدامى يقدّرون الحياة، وكانوا يقصدون من وضع المؤن مع الموتى (مثل الممتلكات والقرابين في المقابر) ضمان أسلوب عيش مريح في الحياة الآخرة. يعتقد العلماء في مجال علم المصريات أنّ المواد الغذائية الأساسية في مصر القديمة كانت الخبز والبيرة، وذلك بفضل الأدلة الخطية الكثيرة المتوفرة حول التجارة بهاتَين السلعتَين.

إنّ الدلائل الفنية على القرابين في المقابر والاكتشافات المادية للنبات وعظام الحيوانات، بالإضافة إلى الخزف والعديد من أشكال الثقافة المادية الأخرى، تشير إلى نظام غذائي متنوّع. لسوء الحظ، لا نعرف معلومات كثيرة عن الأطباق المطبوخة لأنه غالبًا ما يصعب اكتشافها من الناحية الأثرية.

خلال الفترة البطلمية التي انتهت بالملكة كليوباترا السابعة، أحضر المستوطنون الذين كانوا يتكلّمون اللغة اليونانية أنواعًا وتقنيات جديدة في مجال الطهي، ما ساهم في إحداث تطورات في الزراعة التي كان لها تأثير مباشر على النظام الغذائي. على سبيل المثال، أتاحت العجلة المائية ولولب "أرخميدس" إدخال نظام ري جديد تمامًا لا يعتمد على الفيضانات الموسمية.

وشملت الأنواع الجديدة التي تم إدخالها قمح الخبز والمكسرات بالإضافة إلى مجموعة متنوّعة من الفواكه، مثل الدراق والكمثرى والخوخ والمشمش والكرز الحامض. وأصبح الدجاج مادة غذائية شائعة. ويُشار إلى أنّ الإغريقيين لم يعرفوا البيرة ولم يشربوها، فاستُبدلت بالنبيذ باعتباره مشروبهم المفضّل.

ساهم التوسّع على نطاق شبكات التجارة مع آسيا في توفّر محاصيل، مثل الأرز والفلفل الأسود والباذنجان في مدن الموانئ على البحر الأحمر خلال العصر الروماني، لكن الأمر استغرق بضعة قرون لتصبح هذه الأنواع جزءًا من النظام الغذائي السائد.

Food in Egypt After the Arabs (641/1517)راوي - دورية التراث المصري

مصر بعد دخول العرب

انتهت أيام مصر كمقاطعة للإمبراطورية البيزنطية مع قدوم الغزو العربي عام 641 ميلادي. ويُقال إنّ الوافدين الجدد المحاربين قد فوجئوا بمجموعة متنوّعة من الأطباق التي اعتاد المصريون تناولها مقارنةً بنظامهم الغذائي البدوي البسيط. مع ذلك، وللأسف، لا نعرف الكثير عما تتضمنه هذه الأصناف. ومنذ ذلك الحين، حكمت سلسلة من السلالات والخلافات بلاد مصر، ولكن لم يعرف أحد الجوع إلا في حال شهدت المنطقة موجة جفاف أو مجاعة.

عندما أسس الفاطميون مدينة القاهرة في القرن العاشر ميلادي تقريبًا، سرعان ما أصبحت العاصمة الجديدة مدينة مزدهرة ومركزًا للطهي في العالم الإسلامي. وبالتالي، توافدت مجموعات كبيرة من مختلف الأعراق إلى المدينة حاملةً معها تقنيات زراعية جديدة وأنواعًا نباتية ووصفات جديدة.

رحّبت القاهرة بالتأثيرات الجديدة بسرعة ملحوظة. وشملت المحاصيل الجديدة قصب السكر والباذنجان والأرز والقلقاس وأنواعًا مختلفة من ثمار الحمضيات، على سبيل المثال لا الحصر. ومن المواد الغذائية الأساسية نذكر لحم الضأن ولحم البقر والدجاج والإوز والبيض والقمح والفول والسكر وزيت السمسم والشمام والسفرجل.

اشتهر الحكّام الفاطميون بتنظيم الأعياد الباذخة لإطعام الجماهير. فكان يتم إعداد المئات من الأطباق وتقام مسابقات الأكل كعرض ترفيهي للجمهور. أما خلفاؤهم الأيوبيون المتشددون، فقاموا بطرد العديد من طهاة القصر المشهورين الذين أسسوا في نهاية المطاف أعمالهم الخاصة في مجال الطهي العام في أسواق القاهرة الشهيرة خلال العصور الوسطى.

ومع ذلك، انضمت مصر إلى الإمبراطورية العثمانية عام 1517 ميلادي وأصبحت مقاطعة توفّر عائدات زراعية وضريبية، فدخلت مصر في عصر من التدهور البطيء، ما انعكس في النقص بتوفّر الكتب والمعلومات عن الطبخ خلال هذه الفترة.

Egyptian Food in the Transformative 19th c. (1800/1900)راوي - دورية التراث المصري

القرن التاسع عشر، قرن التحوّل

في عام 1811، أجبر "محمد علي" العثمانيين على منحه حكمًا وراثيًا على مصر كنائب للملك، مستهلًا حقبة جديدة في تاريخ مصر. وبعد أن أحكم قبضته على السلطة، بدأ محمد علي مشاريع التحديث الكبرى، بدءًا بالجيش والصناعة والزراعة.

بحلول أربعينيات القرن التاسع عشر، بدأت زراعة محاصيل جديدة، مثل الجوافة والفراولة بنجاح في مصر، إنما لم تتم زراعة محاصيل أخرى، مثل الأناناس. وكانت الطماطم التي يُعتبر توفرها حديثًا نسبيًا مزروعةً على نطاق واسع وسرعان ما أصبحت تُستخدم في جميع الأطباق المصرية.

بفضل الازدهار الذي شهده الاقتصاد في مصر، تحوّلت المدن إلى محاور عالمية يعيش فيها أشخاص من خلفيات عرقية ودينية متعددة معًا في المباني نفسها. وكانت ترسل العائلة المصرية الطبق التقليدي ' عاشوراء أو الكعك، أو بِصارة، وكانت تتلقّى في المقابل الطبق اليوناني "الفاسولادا"، وهو طبق شائع يُحضَّر خلال عيد الفصح اليهودي أو الصوم القبطي ويتألف من الخرشوف مع الفول.

أما الثقافة الفرنسية فكان تأثيرها الأكبر على الطبقة الحاكمة التركية الشركسية والأعيان المصريين. يمكن ملاحظة التأثير الفرنسي القوي على الطبقات المجتمعية العليا في قائمة مأكولات "الخديوي إسماعيل" التي تم إعدادها خلال حفل افتتاح قناة السويس التاريخية، ومن المفاجئ أنها كانت وليمة فرنسية بامتياز.

في عهد قصر عابدين، كانت القائمة أكثر تنوعًا. في كتاب الطهي الذي تركه لنا "الأسطى أحمد إبراهيم"، وهو الطاهي في قصر "الخديوي إسماعيل" والذي أسبغ على نفسه لقب "فيلسوف الطعام"، دوّن الأسطى مجموعة مبهرة من الوصفات من مختلف الثقافات والجماعات الدينية والمناطق، بدءًا من المواد الغذائية المصرية مرورًا بالباستا الإيطالية ووصولاً إلى بودنغ حليب الأرز الأمريكي.

استمر التأثير الأوروبي العثماني في السيطرة على النظام الغذائي الحضري في مصر حتى القرن العشرين ميلادي عندما خضعت مصر، بالإضافة إلى بقية العالم، للتغييرات الجذرية التي جاءت مع بداية العصر الحديث.

Egyptian Food in the Modern Age (1900/1950)راوي - دورية التراث المصري

العصر الحديث

شهد القرن العشرين الموجة الأكبر من التغييرات الجذرية في العادات الغذائية المصرية. وفي التفاصيل أنّه تم فقدان عدد كبير من تقاليد الطعام التي كانت سائدة في بداية القرن بحلول نهاية القرن. كان سكان المدن هم السبّاقون في تبنّي هذه التغييرات، كما هي الحال في كثير من الأحيان، ولكن سرعان ما تمدّدت هذه التغييرات إلى الحياة الريفية.

خلال النصف الأول من القرن، كان الملوك والنبلاء لا يزالون يتمتعون بنظام غذائي عثماني وأوروبي إلى حدّ كبير. واستمرت الذرة في كونها الغذاء الأساسي لغالبية المصريين، إلى جانب نظام غذائي من الخبز والبقول والأعشاب والخضار. أما البطاطا التي ظهرت في مصر في القرن السابق، فأصبحت شائعة على نطاق واسع.

وتم احتواء فيضانات النيل التي كانت تحصل في السابق في وسط منطقة الزراعة المصرية، أولاً في القرن العشرين من خلال سدّ أسوان القديم الذي اكتمل تشييده في العام 1902، ولاحقًا من خلال السد العالي في العام 1960. بالتالي، لم يعُد مصير الفلاحين المصريين مرتبطًا بالفيضانات التي لطالما حددت نظامهم الغذائي الموسمي، ولكن بدأت عوامل جديدة تلعب أدوارًا محورية في اختيار الطعام. ونذكر من العوامل مستويات جديدة من تأثيرات الحراك الاجتماعي والتكنولوجيا والمبادرات الحكومية والإعلام.

في سبعينيات القرن الماضي، ساهم الاقتصاد المصري منذ انتهاج سياسة الانفتاح، "الباب المفتوح"، بتوفير مواد غذائية وسلع أجنبية مميزة وعصرية. وكنتيجة لذلك، تراجع إعداد المأكولات التقليدية واتّباع تقنيات الحفظ. لا يتجاوز عمر العديد من السلع الأساسية اليوم سوى بضعة عقود أو قرن أو قرنَين على الأكثر.

ومع إدخال التعاونيات، أصبحت المأكولات المجمّدة متوفّرة على نطاق أوسع وتباع في كل أنحاء البلاد. وحلّت المخابز الآلية أيضًا مكان الخبز اليدوي، فوفّرت وسيلة سهلة وزهيدة لشراء الخبز، حتى قلّ عدد الأشخاص الذين يخبزون في المنزل.

صحيح أنّ مصر واكبت الثقافات الغريبة واحتضنتها على مدار تاريخها، ولكنها تكيّفت مع التغيير في القرن العشرين بسرعة مذهلة. وبدلاً من التطور التدريجي، تم استبدال التقاليد المحلية بسرعة فائقة، الأمر الذي سلّط الضوء على ضرورة دراستها وتوثيقها ومحاولة إنقاذ ما تبقى من التقاليد القديمة التي اختفت والتي استمرت في التداول ربما على مدى آلاف السنين.

ملكية المحتوى: جميع الوسائل
يمكن أن يتمّ إنشاء المقالة المقدَّمة في بعض الحالات بواسطة جهة خارجية مستقلة، وقد لا تمثِّل دائمًا وجهات نظر المؤسسات (المدرجة أدناه) التي قدّمت المحتوى.
استكشاف محتوى إضافي
موضوع متعلّق بالمحتوى
Taste of Egypt
From its ancient roots to the present day; Taste of Egypt is an extensive look at Egypt's culture of food and dishes.
عرض الموضوع
الصفحة الرئيسية
اقتراحات
لعب
مواقع مجاورة
المحتوى المفضَّل